31 - 05 - 2025

السقوط من الذاكرة| أين ذهبت ملك حفني ناصف؟

السقوط من الذاكرة| أين ذهبت ملك حفني ناصف؟

في العيد المئوي لرحيل الكاتبة، والباحثة الاجتماعية المصرية ملك حفني ناصف أول من دعت لتحرير المرأة تساءلت عن أسباب سقوط النساء الفاعلات في المجتمع الناجحات بمقاييس عصرهن من الذاكرة الجماعية؟ أو قصر وجودهن على ناحية محددة لا تتخطاها؟ - نحن نذكر شعر الخنساء في رثاء أخيها صخر، ولا نعرف شيئًا عن شعرها في الحب مثلاً أو حتى شعرها في الحرب- لماذا يحدث هذا مع الأديبات والمبدعات بصفة خاصة؟ وتوالت الأسئلة: 

هل يحدث هذا في عالمنا العربي أم أنها ظاهرة عالمية؟

هل يكون السبب هو عدم توفر المعلومات الكافية لاستمرار التواجد، والسطوع؟

ولماذا تتجاهل المؤسسات العلمية نقص المعلومات هذا فلا تقوم بالعمل على سده؟

هل بسبب عدم اهتمام المثقفين بمنجز المرأة؟ هل هو موقف عام من النساء بشكل عام؟

هل هناك موقف منحاز من الدولة ضد منجزات النساء؟

هل هو بسبب مواقف الكاتبات أو عدم وضوح الرؤية لديهن مما سبب إسقاطهن عمدًا من الذاكرة كتقييم لاحق لإنتاجهن؟

هل هي أسباب واحدة تعرضن لها جميعهن؟ أم أن الموقف قد اختلف مع كل منهن على حدة؟

للإجابة على هذه الأسئلة يجب أن نعرف من هي ملك حفني ناصف أولاً، ولماذا نحتفل بمئويتها.

ولدت ملك في 25 ديسمبر عام 1886 ورحلت في الثانية والثلاثين من عمرها في 17 أكتوبر 1918. وهي ابنة العالم، الشاعر حفني ناصف القاضي، وقد كان بيته مناصرًا للاستقلال، ودفع أولاده ثمنًا غاليًا بتوالي اعتقالاتهم بسبب مقاومتهم للإنجليز. هي أول من حصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة حكومية، وأول المتخرجات من مدرسة المعلمات.

كتبت في مجلة الجريدة التي كان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد، وهي في الثالثة عشر من عمرها. تزوجت من شيخ العرب عبد الستار بك الباسل رئيس قبيلة الرماح بالفيوم وعاشت هناك ووقعت مقالاتها باسم باحثة البادية لتنقل تجارب الحياة هناك.  قدمت للبرلمان قائمة مطالب لتحسين وضع المرأة المصرية. وأسست الاتحاد النسائي التهذيبي. وجمعية التمريض التي ساعدت الأماكن المنكوبة وكذلك ساعدت الجرحى الليبيين أثناء مقاومة الاحتلال الإيطالي، بالإضافة إلى كثير من الجمعيات النسوية التي ساهمت في إصلاح أحوال المرأة المصرية. كتبت المقالات الداعية إلى إصلاح المجتمع، ثم جمعتها في كتاب النسائيات الذي كتب مقدمته أحمد لطفي السيد، ولم تتوقف في كتاباتها عند مشاكل المرأة وحدها بل أرجعت أسباب التخلف إلى المرأة والرجل معًا. كانت تعد لمشاريع كتب أخرى موجهه لإصلاح المجتمع منها كتاب حقوق النساء، لكن العمر لم يسعفها.

دعت ملك حفني ناصف إلى تعليم المرأة وتمسكت برأيها هذا في مواجهة ما كانت تراه سرعة في التغييرات الاجتماعية تشبهًا بالغرب، وأقصد رأي قاسم أمين ودعاة التحرر في تلك الفترة. كتبت تقول: علموها وهذبوها، ثم اتركوها تختار لنفسها.

ودخلت في سجالات واضحة مع الباحثين في عصرها ومنهم بالطبع قاسم أمين وأحمد لطفي السيد، ومي زيادة، بل ودعت إلى ما أسميه  أدبيات الحوار. التي مازلنا نناضل للوصول إليها حتى الآن واحترام الاختلاف والاعتراف بأن للاختلاف أصول يجب مراعاتها، وقد جاء في مقالها احترام الآراء وآداب الانتقاد:

من العدل أن تترك الحركة لكل انسان يعتقد في خلده ما يعتقد، لأن المصادرة لا تجوز في الأفكار، والاضطهاد إذا ضيق دائرة العمل والكلام، فلن يبلغ الضيق على الهاجس والوجدان. وفي موضع آخر: ومن أدب الكتابة ألا يخلط الكاتب الشخصيات بالعموميات، إذ ما علاقة انتقاد مبدأ مثلاً بأم المنتقد أو زوجه أو فقره وغناه؟ وأين الشجاعة والشهامة في كيد الخصم من هذا الهذيان؟ لعلهم جعلوا مكان الأسنة الطوال ألسنة طوالاً وبدل خضاب الدماء صبغة من قلة الحياء.

نعتوها بالاعتدال وأظن أن هذا الاعتدال خاصة فيما يخص الحجاب كان هو العامل الأول في الاسقاط من الذاكرة الجمعية. فقد لاحظت على طول التاريخ أن التطرف ربما إلى الحد الأقصى هو ما يبقى في الذاكرة، وأن الاعتدال يذهب مع الرياح، لا يهتم به أحد. لا أعرف السبب ربما تحتاج المجتمعات إلى هزة قوية تحرك الساكن بالفعل بدلاً من الانتظار الطويل للتغيير الهادئ.

لم ترفض ملك حفني ناصف الحجاب كما أشيع، بل دافعت عن كون الحجاب ليس هو سبب تأخر الأمة: فالأمم الأخرى تتباين من حيث القوة والضعف على الرغم من أن النساء سافرات فإذا كان السفور هو مصدر قوة هذه المجتمعات لماذا لا تكون كلها قوية؟ 

وهي تصف الأمر في موقع آخر قائلة: خروجنا بغير حجاب لا يغير في نفسه إذا كانت أخلاقنا، وأخلاق رجالنا على غاية الكمال وأظن هذا مستحيلاً، فإذا حصل التمازج وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لي عليه.

لم تعترض على الحجاب إذن بل اعترضت على أخلاق المجتمع وما يمكن أن تواجهه الفتاة إذا ما خلعت الحجاب فجأة دون تدريب لها وللمجتمع على السواء، وكتبت في هذا الكثير من التفاصيل لمخاوفها، ورأت أن التعليم وحده هو الكفيل بإزالة هذه المعوقات.

درست ملك ناصف مجتمعها جيدًا، ووضعت يدها على عيوبه، ومنها التقليد الأعمى لكل ما هو غربي، وأرجعت هذا لأسباب عديدة منها موقف الرجل المصري المبهور بالسيدات الأجانب، ومعاملتهن باحترام لا تتمتع به الزوجة المصرية مطلقًا، مما دفع بعض النساء للتشبه بهن دون وعي فبدأت تنتشر بينهن عادة شرب الخمر، والتدخين، مجاراة للزوج الذي يرى في السلوك الأوروبي دربًا من دروب الحداثة. وعادات أخرى حذرت منها في خطابها بنادي حزب الأمة منها: تلوين النساء لوجوههن قالت " إذا ما خرجت إحداهن تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسر في مشيتها كأنها الخيزران.

وهذا يعود بنا إلى السؤال: هل سبب إسقاطها عمدًا من الذاكرة هو عدم وضوح الرؤية في أفكارها مما دفع المجتمع إلى تقييم لاحق لإنتاجها ووضعها في الهامش؟

كانت ملك حفني ناصف تملك بصيرة نافذة منطلقة من تعاليم دينها، ومعرفتها بخصائص مجتمعها، ربما لأنها لم تنح المنحى الذي يضعها مع التقليديين في كل تمسكهم المحافظ بالتقاليد أو مع الحداثيين في كل آرائهم التي يتفق معظمها مع الغرب لاقت صعوبة في أن يفهمها أي منهما. اختارت ملك حفني ناصف أن يكون لها رأي في كل قضية على حدة، وفق رؤية عامة تقبل الجدل والنقاش وتفتح الآفاق نحو التغيير، فهي لا ترفض كل ما يأتي به الغرب بل على العكس تطالب بالنظافة التي تتمتع بها المدن والبيوت الغربية، تطالب باحترام المرأة المصرية والثقة في سلوكها وألا تتم مراقبتها أناء الليل وأطراف النهار، وتطالب بأن تخرج من بيتها محتشمة وألا تبقى حبيسة البيت. الشرط هنا هو الاحتشام حتى تتقي ما تسمعه في الشارع من موبقات تخدش الحياء. بل أنها طالبت المرأة بممارسة الرياضة كي تتحسن صحتها، وتطالب الدولة بإنشاء متنزهات عامة، تسمح للعائلات بالتريض، تطالب بتطبيق تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وليس ما يفرضه المجتمع مما يتصوره عن الدين، تطالب بتغيير القانون الذي يسمح بالزواج من أخت الزوجة بوضع قيود تمنع طلاق واحدة كي يتزوج من الثانية، وتجد من المبررات الإنسانية ما يعضد هذا. أي أنها طالبت بفتح باب الاجتهاد في الدين كضرورة لحل مشاكل المجتمع؟

بل إنها بالإضافة لمطالبها التي قدمتها للبرلمان قد وضعت مانيفستو لدستورها للتطوير يبدأ بتعليم البنت الدين الصحيح أولاً؛ أي القرآن والسنة، ثم تعليم حتى المرحلة الثانوية، يكون إجباريًا في التعليم الأولي لكل الطبقات. تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملاً، وقانون الصحة، وتربية الأطفال، والإسعافات الأولية، وتخصيص تعليم عدد من البنات في الطب، والتعليم، وإطلاق حرية العلم في غير هذه التخصصات لمن ترغب، وتدريب البنات على الجدية، والصدق في العمل والفضائل، اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة باجتماع الاثنين مع محرم قبل الزواج، اتباع عادة نساء الاتراك في الخروج، والحجاب، والمحافظة على مصلحة الوطن، والاستغناء عن الغريب من الأشياء، وطالبت الرجال بتنفيذ ذلك. 

هل يمكن الحكم على هذا التخطيط بعدم وضوح الرؤيا؟ بالطبع لا.

ونعود للسؤال: هل يحدث هذا في عالمنا العربي وحده؟ أم أنها ظاهرة عالمية؟ أقول لا بل هو مازال منتشرًا في كل انحاء العالم وبدرجات متفاوتة، انتظر العالم أن تبلغ الرسامة الأمريكية الشهيرة جورجيا أوكيف حتى بلغت الثمانين من عمرها حتى يعترفوا بها كأم للحداثة الأمريكية وبيعت لوحتها الوردة البيضاء بأربعة وأربعين وأربعة من عشرة مليون دولار.

فمنذ اكتشف الرجل دوره في الاخصاب انقلبت كل الآيات وهو مازال يتفنن في كل طرق الإزاحة. ونحن نرى عداوة البنية الذهنية البطريركية للمرأة بدءًا من عداوتها للإلهة الأم تحديدًا ومحاولة تشويهها في كل الأساطير إلا في القليل النادر، وحمدًا لله أن الصورة الاستثنائية الحسنة موجودة في الأسطورة المصرية إيزيس والأسطورة البابلية إنانا. فقد وحدت هذه الذهنية موقفها الفكري في الثقافة ضد المرأة ووحدت بين النساء بخصائص العدوانية والمكر، والكيد، والسحر، وظلت المرأة متماثلة يجري تقييم المثال الواحد ويجري تصنيف الأنوثة وتنميطها بناء على ما تفعله واحدة منهن، والمرأة هنا ليست ذاتًا مستقلة تعبر عن نفسها وتمثل فرديتها، وانما هي نموذج ومثال على جنسها كله على عكس الرجل الذي ينظر إليه بوصفه ذات مستقلة وفعل واحد.

وإذا نظرنا حولنا في المنطقة العربية، وفي مصر في المجلس الأعلى للثقافة في نفس المكان الذي يحتفل بمئوية ملك حفني ناصف الآن سنجد أن نسب تمثيل المرأة مجحفة في كل شيء. وبالنسبة للدولة فهي تعكس انحياز الرجل الذي بيده سلطة الحكم على الرغم من دفاع عدد من الرجال عن حقوق المرأة وتطورها وهو شيء لا يمكن إنكاره.

هل هي أسباب واحدة تعرضن لها جميعهن؟ أم أن الموقف قد اختلف مع كل منهن على حدة؟

في ظاهر الأمر يبدو أن كل منهن قد واجهت أمرًا مختلفًا، قوت القلوب الكتابة بالفرنسية، ملك الاعتدال والتأرجح بين المحافظة والحداثة، درية شفيق التغريد خارج السرب، بالخلاف مع عبد الناصر، جورجيا أوكيف الاهتمام بالأنوثة وحدها، على الرغم من أن زوجها الناقد التشكيلي هو الذي أطلق هذه الأحكام. وغيرها من الأسباب. إلا أن حقيقة الأمر تقول إن الأسباب واحدة: هي عدم الإيمان الحقيقي بمنجز المرأة ومساواتها بميزان النقد العام بعيدًا عن جنسها. 

هل عرفنا الآن لماذا أسقطت ملك حفني ناصف وغيرها من الرائدات من الذاكرة الجمعية؟ 

قضيتنا أن نعيد لها الوجود والظهور. واحتفالنا الآن بعض من مجهود يجب ألا نتوقف عنده، لإعادة الحقوق إلى أصحابها امرأة كانت أو رجلاً.
---------------------
بقلم: هالة البدري

مقالات اخرى للكاتب

من قتل نعيمة البزاز؟ مرثية عن كاتبة لم نعرفها جيدًا